تونس- ثورة في مفترق طرق، بين الأمس واليوم.

في ظل عام آخر تحت القيادة الفردية للرئيس قيس سعيد، تسترجع تونس ذكرى ثورتها في خضم أزمة سياسية واقتصادية معقدة، مما يثير أسئلة جوهرية حول مسبباتها ومآلاتها المحتملة.
هذا السياق المضطرب شكّل مادة ثمينة لعدد من الأفلام الوثائقية التي قمت بإنجازها، والتي لاحظت من خلالها أنني كنت في كل مرة أركز على سؤال محوري يحمل في طياته تناقضًا لافتًا، ألا وهو:
ما الذي حدث بالتحديد في تونس في الرابع عشر من يناير/كانون الثاني عام 2011؟
من البديهي أن تتشعب الإجابات عن هذا السؤال وتتنوع، في نطاق واسع يتراوح بين اعتبارها حدثًا ثوريًا مجيدًا، وبين من يراها مؤامرة مدبرة من الغرب على الدولة الوطنية، نُفّذت بواسطة "أدوات محلية".
لكن هذا السؤال بالذات يشير إلى دلالة أخرى، وهي ما يمكن وصفه بالتميز الذي اتسم به ذلك الحدث التاريخي، الذي امتد من ديسمبر 2010 إلى يناير 2011، مرسومًا بذلك مشهدًا إقليميًا وعربيًا مغايرًا لما استقر في المنطقة على مدى عقود.
تجلت فرادة الحدث التونسي في كونه تحقق على أيدي شباب مهمشين، في عام اعتمدت فيه الأمم المتحدة اقتراحًا رسميًا تونسيًا باعتبار عام 2011 سنة دولية للشباب.
تقابل حادّ
وجد نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي نفسه في مواجهة شريحة من المجتمع خارجة عن التصنيفات التقليدية، تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي كأداة رئيسية لكسر الحاجز الأمني المحكم الذي كان مفروضًا على التونسيين في ذلك الوقت.
ومرة أخرى، وبغض النظر عن التباين الحاد في توصيف الحدث وتفسير دلالاته، يمكن اعتبار ما جرى فرصة سانحة وثورية، تقاسمتها رؤيتان أساسيتان: الأولى؛ أمل في إرساء ديمقراطية عصرية، وهو ما تجسد في دستور وهيئات دستورية وانتخابات نزيهة.
والأخرى؛ أرضية صلبة قام عليها "الحلم الديمقراطي"، وتتمثل في عقلية اجتماعية دائمة المطالبة، وقبل ذلك وبعده، تركيبة عميقة لشبكة من المصالح وأصحاب النفوذ، الذين كانوا يراقبون خريطة سياسية منحت الإسلاميين الشرعية القانونية والأدوار البارزة في التفاعل مع تحولاتها، وهو الأمر الذي أثار حفيظة البعض، ورفض البعض الآخر للواقع الجديد.
أدى التصادم بين الواقع والطموحات إلى ظهور صراعات عمّقت مشاكل البلاد بدلًا من حلها، ليتحول المسار الديمقراطي تدريجيًا إلى أزمة زادتها الأحداث الأمنية والاعتداءات الإرهابية تعقيدًا وتشابكًا.
لا ريب أن عملية التحول، في أي دولة من الدول، هي عملية مضنية ومؤلمة، تحيط بها الرهانات والمخاطر من كل جانب، ولكن محدودية الوعي العام بهذه الحقيقة، وفشل النخب التي عارضت نظام بن علي في تشكيل كتلة تاريخية قوية لمواجهة تحديات المرحلة، كل ذلك أوجد فراغًا حول المسار الديمقراطي، وجعله يتآكل من داخله تدريجيًا، إلى أن استعادت قوى الماضي ثقتها في إمكانية استعادة السيطرة على الأمور، وشجع جهات إقليمية ودولية على التفكير في الانتقام من "مهد ثورات الربيع العربي"، وإخماد هذه الشرارة من حيث انطلقت.
يثير هذا الأمر تساؤلًا لا يمكن تجاهله: ما الأهمية التي مثلتها تونس لتلك القوى الإقليمية والعربية مقارنة بساحات أخرى مشتعلة مثل سوريا واليمن وحتى الجارة ليبيا؟
بعد رمزي
تقودنا الإجابة إلى جانب تهمله معظم التحليلات التي تختزل الصراعات العنيفة في الجانب العسكري المسلح فقط، بينما تذكرنا تجارب عديدة بأن اندلاع النزاعات وإنهاءها يعود إلى معطيات رمزية وقيمية مرتبطة بمشاريع وتطلعات القوى المتصارعة أو المتنافسة.
هنا تكمن أهمية تونس الكبيرة.. فقد منحت الثورة للبلاد صورة تكاد تكون مثالية، ليتحدث الجميع في عام 2011 عن تونس ذات الإرث الإصلاحي العريق، بلد الحضارة والشعب المثقف المنفتح، مما يفسر ريادتها في إحداث ذلك التغيير الذي غيّر ملامح المنطقة إلى الأبد.
كان لا بد من العودة إلى تلك الصورة وإلى أبعادها الواقعية والمثالية؛ لإعادة تشكيلها من جديد وفق اعتبارات مختلفة، يظهر فيها التونسي ساخطًا على الديمقراطية ومن يطالبون بها، غير راغب في سماع أي شيء عن السياسة وأهلها، غارقًا في همومه اليومية لا يشغله سوى توفير قوت يومه أو ركوب أحد قوارب الموت، كما يُطلق عليها في الهجرة السرية نحو "الفردوس الأوروبي".
في هذا الإطار، توجد مساحة كافية لتفسير العديد من التناقضات التي تكتنف المشهد الحالي في تونس وتزيل عنه الكثير من الغموض، ذلك أنه كان مقدرًا للثورة التي أطاحت بالرئيس الراحل بن علي أن تنتهي كما بدأت بأقل خسائر ممكنة، بل وبدون إراقة دماء.
كما كان مقدرًا لها أن تنتهي بنفس الآليات الديمقراطية التي أرستها، فكان الرهان على الانتخابات وتحالفاتها المتغيرة، وكان مقدرًا لها أن تنتهي بأسمى شعاراتها؛ ألا وهو مكافحة الفساد، ولكن هذه المرة لا يتم توجيه الاتهام فقط إلى بقايا النظام السابق كما كان يصفهم "الثوريون"، وإنما أيضًا إلى أولئك الذين قاوموا نظام بن علي القمعي في الماضي.
في التحول الفريد لمسار الثورة في تونس تحت عنوان: "مسار الخامس والعشرين من يوليو"، يكمن تفسير المعركة الشرسة بين سرديتين تتنافسان على التحدث باسم الثورة واتهام الطرف الآخر بخيانتها.
سرديتان تتنازعان على مصطلحات أساسية مثل؛ البناء الجديد والفعل التاريخي وتوزيع السلطة والثروة في تونس الحالية، مع ما يستتبعه ذلك من إعادة تعريف للسلطة، وإعادة تشكيل للتوازنات من خلال إلغاء الهيئات الوسيطة وتقليص دورها سواء كانت سياسية أم نقابية.
مخاض الفوضى
هل هناك قدر من الصحة في القول بأن الثورة التونسية قد انتهت، أم أنها لا تزال حية ترزق، رغم الغيبوبة التي تمر بها؟
الإجابة هي نعم ولا، فالإجابة تحمل في طياتها قدرًا من الفوضى التي لا يمكن الجزم بما إذا كانت ستكون بناءة أم خانقة.. ذلك أن الأفق يبدو ضبابيًا في ظل وجود سلطة تقول؛ إنها تخوض حربًا ضروسًا ضد ما تسميه بشبكة الفاسدين والمحتكرين والخونة، وكذلك في مواجهة معارضة استنفدت جميع الوسائل السياسية السلمية في مقاومة ما تعتبره انقلابًا غير مسبوق لم تجدِ معه البيانات والاجتماعات والمسيرات.
بين هذا الفريق وذاك، يقف شعب أعرض عن المشاركة في جميع المحطات التي دعا إليها الرئيس سعيد، دون أن يعني ذلك اشتياقًا إلى ما قبل ذلك المسار، وهو الذي اعتاد على التعبير عن رأيه بشأن الواقع الذي يعيشه، من خلال فئات وتعبيرات ووسائل تتجاوز حدود الدولة ومعارضيها.
تلقي الأزمات بظلالها القاتمة على الساحة، مما يجعلها ضعيفة أمام التدخلات الخارجية، ولكنها تقود بتراكماتها البطيئة والعميقة نحو تحول ما.
تحول يقول الرئيس قيس سعيد؛ إنه بصدد إحداثه وفرضه، وتؤكد المعارضة أنه آتٍ لا محالة في اتجاه الحرية والديمقراطية، ولكن سياسة الأمر الواقع الحالية لا تفعل شيئًا سوى تأخيره، مما ينذر بثمن باهظ لتحقيقه، في بلد طالما تفاخر بأنه حقق تحولاته بأقل التكاليف.
